هدر الطعام: الشرارة الخفية لأزمة المناخ العالمية والفضيحة الأخلاقية لبريطانيا
**مقدمة:**
في مشهد يتكرر فجر كل
يوم شتوي، تتلقى مديرة مدرسة رسالة عاجلة: "لا حليب. لا حبوب. لا فطور".
وفي الوقت ذاته، يقوم فريق من المتطوعين بتفريغ شاحنة مليئة بالمواد الغذائيةالصالحة للاستهلاك، والتي تم إنقاذها قبل ساعات من مصيرها المحتوم في مكبات
النفايات. هذا التناقض الصارخ بين أطفال يعانون الجوع وطعام يُهدر بكميات هائلة
يمثل ليس فقط فضيحة أخلاقية كبرى، بل شرارة خفية تغذي أزمة المناخ العالمية. في
بريطانيا، حيث تتفاقم مستويات الجوع، يصبح هدر الطعام وصمة عار مسكوت عنها،
وعاملاً رئيسياً في تفاقم التحديات البيئية.
![]() |
هدر الطعام: الشرارة الخفية لأزمة المناخ العالمية والفضيحة الأخلاقية لبريطانيا |
**حجم الكارثة أرقام صادمة وتكاليف باهظة**
تكشف الإحصاءات الأخيرة
الصادرة عن وزارة البيئة والغذاء والشؤون الريفية (Defra) وبرنامج العمل في شأن النفايات والموارد (Wrap) عن حجم كارثي لهدر الطعام في
المملكة المتحدة. فكل عام، يُتلف ما يقدر بـ 10.7 مليون طن من الطعام، بقيمة تصل
إلى حوالي 17 مليار جنيه إسترليني، وذلك عبر جميع مراحل السلسلة الغذائية: المزارع،
المصانع، المتاجر، المطاعم، والمنزل. لو قسمنا هذه الأرقام، سنجد أن الأسرة
البريطانية العادية المكونة من أربعة أفراد تهدر طعاماً بقيمة 1000 جنيه إسترليني
سنوياً.
- تتحمل المنازل مسؤولية الجزء الأكبر من هذا الهدر، إذ تسهم بنحو 60% من الإجمالي، بينما تأتي
- المزارع في المرتبة الثانية بنحو السدس. والأكثر صدمة هو أن ما يقارب نصف الطعام الذي يُلقى في
- سلة المهملات ما زال صالحاً تماماً للاستهلاك، وهو ما يمثل ملايين الوجبات المهدرة يومياً. هذه
- الممارسات لا تقتصر آثارها على الجانب المالي والاجتماعي، بل تمتد لتشمل تكلفة بيئية هائلة. فـ 18
- مليون طن من غازات الدفيئة تنبعث سنوياً نتيجة لهدر الطعام، ما يقوض بشكل خطير التزامات
- المملكة المتحدة تجاه المناخ ويضعف أمنها
الغذائي.
**فشل النظام لماذا نُهدر؟**
الفضيحة الحقيقية ليست
في مجرد وجود الهدر، بل في تصميم أنظمة تشجع عليه وتجعله أمراً منطقياً. تتعدد
العوامل التي تسهم في هذا الفشل:
1. **العقود الزراعية المجحفة:** يجد المزارعون أنفسهم مقيدين بعقود
تجعل إعادة المحاصيل إلى التربة أو التخلص منها أرخص من حصادها وتوزيعها. هذا يؤدي
إلى إهدار كميات هائلة من المحاصيل لمجرد أنها لا تتوافق مع معايير "الكمال"
الشكلية التي يفرضها تجار التجزئة.
2. **المعايير الجمالية للمتاجر:** تواصل المتاجر الكبرى فرض معايير
شكلية صارمة على المنتجات الغذائية، رافضةً كميات ضخمة من الفاكهة والخضروات
الصالحة للأكل لمجرد عيوب طفيفة في الشكل أو الحجم. هذا الهوس بالكمال الجمالي
يساهم بشكل كبير في الهدر.
3. **القصور التشريعي والتنظيمي:** على الرغم من أن وزارة البيئة
والغذاء والشؤون الريفية (Defra)
مسؤولة عن حماية نظامنا الغذائي، إلا أنها غالباً ما
تكتفي بطلب المراجعات والتجارب اللانهائية، بينما تفشل في سن تشريعات فعالة
لمكافحة هدر الطعام. هذا البطء والتقاعس يؤدي إلى استمرار المشكلة دون حلول جذرية.
4. **نظام الدعم المالي المعيب:** هناك أنظمة دعم مالي تكافئ
المصانع التي تنتج الطاقة من الهدر عبر حرق الفائض، بدلاً من تشجيع إعادة توزيعه
على المحتاجين. هذا يمثل خللاً كبيراً في الأولويات، حيث تُفضل الحلول الصناعية
التي تولد الأرباح على الحلول الإنسانية والبيئية.
5. **الاعتماد على العمل الخيري:** تعتمد مراكز إعادة التوزيع، التي
تقوم بعمل حيوي في إنقاذ الطعام وإيصاله للمحتاجين، بشكل كبير على المتطوعين وعلى
تمويل أساس شبه معدوم. هذا يضع عبئاً غير متناسب على القطاع الخيري، بينما يجب أن
تكون هناك آليات حكومية داعمة ومستدامة.
6. **قوانين التواريخ المربكة:** في دول مثل الولايات المتحدة، تسفر
قوانين وضع تواريخ الصلاحية وتواريخ "الأفضل قبل" المربكة عن إهدار
ملايين الأطنان من الطعام الذي ما زال صالحاً للاستهلاك.
**نموذج فرنسا بصيص أمل**
ليست هذه المشكلة
مقتصرة على بريطانيا. ففي الولايات المتحدة، يتسبب الارتباك حول تواريخ انتهاء
الصلاحية في إهدار كميات هائلة من الطعام. ومع ذلك، هناك نماذج ناجحة يمكن
الاحتذاء بها. ففي عام 2016، طرحت فرنسا "قانون غارو" الرائد، والذي
يجرم قيام المتاجر الكبرى بإتلاف الطعام الصالح للأكل أو جعله غير صالح للاستهلاك.
وبدلاً من ذلك، يُجبر القانون هذه المتاجر على التبرع بالطعام الفائض للجمعيات
الخيرية. هذا التشريع البسيط والفعال أحدث فرقاً كبيراً في مكافحة هدر الطعام في
فرنسا.
**أزمة المناخ هدر الطعام كعامل مهمل**
تتعهد الأمم المتحدة
بخفض هدر الطعام إلى النصف بحلول عام 2030 ضمن أهداف التنمية المستدامة، ولكن
العالم لا يزال بعيداً عن تحقيق هذا الهدف. إن كل عام من التأخير هو عام تزداد فيه
الانبعاثات الكربونية التي كان بالإمكان خفضها.
- إن هدر الطعام ليس مجرد مسألة ثانوية أو مشكلة فردية، بل هو فضيحة المليار وجبة التي تقع في
- صميم انهيار المناخ والظلم الاجتماعي. لو تمكنا من خفض هذا الهدر إلى النصف، فسيؤدي ذلك إلى
- توفير في الانبعاثات أكبر مما يمكن تحقيقه لو أوقفنا جميع الطائرات في العالم عن الطيران. هذا
- الإجراء البسيط كفيل بتأمين قوت الناس مساءً وحماية الكوكب غداً.
**الطريق إلى الحل استثمار وشجاعة**
إن كانت القمة المناخية
"كوب30" (Cop30) المرتقبة في بيليم بالبرازيل، ستُذكر لتحقيقها أفعالاً ملموسة بدلاً من
مجرد الأقوال، فعلى القادة مواجهة هذه الفضيحة. يجب أن يكون الحل ليس عبر المشاريع
التجريبية والوعود، بل من خلال الاستثمار الحقيقي والشجاعة السياسية.
يتطلب حل مشكلة هدر
الطعام مقاربة شاملة ومتعددة الأوجه:
1. **تشريعات صارمة:** يجب على الحكومات سن قوانين مماثلة لقانون
غارو الفرنسي، تجرم إتلاف الطعام الصالح للأكل وتجبر المتاجر والشركات على التبرع
به.
2. **توعية المستهلك:** حملات توعية مكثفة للمنازل حول كيفية
التخطيط للوجبات، فهم تواريخ الصلاحية، والاستفادة القصوى من بقايا الطعام.
3. **دعم المزارعين:** إعادة النظر في العقود الزراعية لضمان عدم اضطرار
المزارعين للتخلص من محاصيلهم لأسباب جمالية أو اقتصادية.
4. **تحسين البنية التحتية:** الاستثمار في شاحنات، ثلاجات، وموظفين
لمراكز إعادة التوزيع، بدلاً من الاعتماد الكلي على المتطوعين والتمويل الهش.
5. **تغيير المعايير:** تشجيع المتاجر على قبول المنتجات ذات "العيوب"
الجمالية الطفيفة، وتسويقها بأسعار مخفضة.
6. **التعليم من أجل الاستدامة:** دمج مفهوم الاستدامة ومكافحة هدر
الطعام في المناهج التعليمية، ليصبح مبدأ أساسياً وليس مجرد وحدة دراسية هامشية.
7. **تحفيز الابتكار:** دعم الشركات الناشئة والتقنيات التي تهدف
إلى تقليل الهدر، مثل تطبيقات ربط فائض الطعام بالمحتاجين.
**الخاتمة**
في قرن يتسم بتحديات بيئية واجتماعية غير مسبوقة، لا يعد هدر الطعام مجرد إهمال، بل هو فعل لا يُبرر إطلاقاً. إنه نفاق مسكوت عنه في بريطانيا والعالم، حيث يوجد نظام صارم لتتبع كل شطيرة تُباع، لكن لا يوجد نظام يضمن وصول هذه الشطيرة إلى يد طفل جائع عندما تصبح طعاماً زائداً عن الحاجة.
إن الأوان قد حان لكي يتخذ القادة قرارات جريئة ومستثمرة
في حل هذه الفضيحة، ليس فقط من أجل الأمن الغذائي والعدالة الاجتماعية، بل من أجل
مستقبل كوكبنا.